مقال رائع : بلال فضل يكتب: حكاية أثناء النوم















بلال فضل يكتب: حكاية أثناء النوم

وهكذا أيها السادة المشاهدون قرر بطل الفيلم بعد شهور من اللَّتّ والعجن والكر والفر واللف والدوران، أن يبنى للبطلة خازوقا طويلا يمتد إلى «عنان» السماء، ويضع لها عليه علما صغيرا لا يتناسب مع طول الخازوق، وفيما هى تشرئب ناظرة إلى العلم سائلة نفسها كيف قام البطل بتدبير تكلفة ذلك الخازوق المعدنى القمىء بينما يشكو لها كل دقيقتين من قلة المال وسوء الحال، فوجئت بالبطل يسدد إلى جنبها جسما صلبا ظنته فى البدء خنجرا، لكنه عاتبها على سوء ظنها، وقال لها إن ذلك الجسم الصلب ليس سوى «وثيقة مبادئ للحياة المشتركة القادمة بينهما» يرغب أن توقع عليها بشكل سلمى ودون مماحكات، وهى رأت أن الكلام به نبرة تهديد فاستاءت بشدة، فقال لها إنه معاذ الله لا يهددها، بل يريد أن يحميها من أخطار محدقة بها، قالت البطلة بابتسامة مرهقة «تحمينى تانى؟ ده أنا لسه مانشفتش من الحمومة الأولى»، لم يبتسم البطل وتعامل مع مداعبتها على أنها قلشة عابرة، أخذ يذكّرها بكل ما تعرضت له من مضايقات طيلة الأشهر الماضية على يد شرير الفيلم عكرمة الذى يقصّر جلابيته ويُطِيل لحيته ولسانه، قائلا إن كل ما تعرضت له يهون إلى جوار ما يمكن أن تراه على أيدى عكرمة ورفاقه الذين لا يمكن أن يردعهم عنها إلا هو، ذكّرها بأن لغة الحوار لم ولن تكون مجدية أبدا معهم، فالحوار كما يفهمونه أن تردد نفس آرائهم بقدر بسيط من التعديل، أما أن تقول رأيك كما تراه فأنت إذن تستحق الويل والثبور وعظائم الأمور.

حاولت البطلة أن تخفى ارتعادها مما قاله، ثم قالت «طيب وما مصلحتك التى ستجنيها من وراء حمايتى.. أرجوك لا تقُل لى إنك تفعل ذلك من أجلى وإنك تحبنى.. فقد ثبت لى طيلة الأشهر الماضية أنك تفهم حبى بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة التى أتمناها»، رأته صامتا وعلى فمه ابتسامة مرتبكة فتشجعت قليلا وقالت بصوت بدا أقرب إلى الغمغمة لكنه أخذ يتصاعد حتى كاد يصبح صراخا هادرا «أنت فى الواقع لا تحب إلا نفسك.. لو كنت تحبنى لحققت لى كل ما أتمناه لعلك تكفّر عن سيئات صمتك الطويل وأنت ترانى أُنتهك وأُهان دون أن تمد إلىّ يد العون.. وعندما خاصمت صبرى وانفجرت فى وجوه ظُلّامى ظللت واقفا على الحياد طويلا قبل أن تنحاز إلىّ.. ورغم أننى شككت فى نواياك فإننى لم أكن أملك بديلا آخر غيرك.. لم أكن بلهاء كما ظننتنى.. أعلم أنك لا تشبهنى ولن أشبهك.. عندى عليك ألف تحفظ وتحفظ.. لكننى أعلم ظروفى جيدا.. أعلم حظى العثر الذى سلّمنى لمجموعة من اللصوص والقتلة والطغاة كنت دائما تحميهم.. أعلم موقعى من العالم الذى يفرض علىّ أن أتحرك بحذر وحيطة.. أعلم أننى لا أمتلك إرادة قوية ولا استقلالا حقيقيا ولا موارد غنية.. كان أملى فيك كبيرا أن تنقذنى وتحمينى.. وكنت أراك دائما تتعثر وأنت تحاول حمايتى.. فأسأل نفسى: هل يعجز عن حمايتى أم أنه لا يرغب فى ذلك؟ هل يعقل أن يهدر فرصة عمره فى اكتساب ثقتى التى قررت أن أمنحها له على طبق من ذهب؟ لماذا يفعل هذه الأفعال المريبة؟ لماذا يقف صامتا وهو يرى عكرمة ورفاقه يعربدون بينما يقسو على أبنائى المحبين وينتهك حرياتهم؟ هل هذا فشل أم تآمر؟ عذبتنى الأسئلة طويلا وعذبنى أكثر أننى أعلم مرارة إجاباتها وأننى أدرك ندرة اختياراتى وصعوبتها.. قررت أن أصمت وأصبر حتى يأتى من ينقذنى من بين يديك بما يُرضِى الله.. فيحقق لى أحلامى ومطالبى ويعاملنى على أننى ملكة متوجة بدلا من أن يهيننى ويستنزفنى كما ظللت تفعل، وما زلت.. لا تقُل لى إذن إنك تريد أن تحمينى لوجه الله.. اكشف أوراقك وقل لى، أين ستكون مصلحتك فى هذه الوثيقة؟».

ضحك البطل ضحكة عصبية وقال لها «طيب وماله؟ لنلعب إذن على المكشوف.. الحكاية وما فيها أننى بموجب هذه الوثيقة سأحميكِ من عكرمة ورفاقه.. سأجعلك تختارين بعلا لكِ كما تحبين.. سأحمى حياتكِ معه لكى تعيشى فى سعادة وهناء»، صرخت قائلة «فى مقابل ماذا؟!»، تجاهل ثورتها وقال «لقد كتبت فى هذه الوثيقة بندا يقول إننى أنا نفسى ملك لك.. لكن ليس من حقك أن تأمرينى بشىء، لا أنتِ ولا البعل الذى ستختارينه.. ليس من حقك أن تعرفى كم سأحصل عليه من أموال أقتطعها من ثرواتك لأحميكِ.. ليس من حقك أن تحاسبينى كيف أنفق تلك الأموال.. ليس لأننى طمعان فيها بل لأنه لن يعرف أحد مصلحتك أكثر منى.. ليس من حقك أن تأمرينى بأى شىء، فقرار الدفاع عنك ضد جاراتك الطامعات فيكِ أنا وحدى الذى أتحمل تضحياته ولذلك من حقى وحدى أن أتحكم فى تفاصيله»، قالت له والأرض تدور بها «لكنك قلت منذ قليل (إننى ملك لكِ)، فكيف تكون ملكا لى ولا يكون من حقى أن آمرك بشىء أو أن أحاسبك على ما تناله من ثرواتى.. هل تكذب علىّ أم تكذب على نفسك؟! لماذا لا تجعلنى أعاملك كما تعامل كل البطلات أبطالها؟! تحترمه وتهابه وتجل تضحياته لكنها تراقبه وتحاسبه لكى لا يفسد؟ ألا ترى إلى جاراتى الطامعات كيف يعاملن أبطالهن بكل احترام لكنهن لا يتركن له الحبل على الغارب ليفعل ما يريد وقتما يريد؟ ألا أستحق أن تعاملنى بنفس الطريقة؟».

هب واقفا من جوارها وهو ينتفض غضبا، رأت فى عينيه نظرة مخيفة لم تعهدها من قبل ولم ترها فى عينيه طيلة الأشهر الماضية، قال لها وهو يرفع إصبعه الذى طالما حذرها به «أنت حرة.. إما أن تنصاعى لكل ما أطلبه وتقبلى بحرية منقوصة وإما أن أفتح لك باب الفوضى على مصراعيه، وسينحاز كل أبنائك المرهقين المكدودين إلىّ لأنهم يعلمون أننى ملاذهم الأخير». وجدت نفسها تكتسب قوة لم تعهدها من قبل جعلتها تنهض صارخة فيه «أنت واهم.. ربما تفرض إرادتك الآن وربما غدا.. لكنك لن تفرضها إلى الأبد.. أنت تنسى أن أبنائى تحرروا ولن يعودوا ثانية عبيدا لمخاوفهم.. أنت الآن ترتكب خطأ جسيما فى حق نفسك عندما تفتح أبواب الشكوك على مصراعيها وتتحدى جيلا عرف الطريق.. أنت تنسى أننا لم نعُد نعيش فى العالم القديم الذى أدمنتَ الحياة فيه.. صدقنى، إذا اغتررت بقوتك وبإرهاق أبنائى فلن يدوم ذلك طويلا.. أنت لا تدرك أنهم تغيروا إلى الأبد ولن يقبلوا بحرية إلا رُبعًا.. لن أخاف من تهديدك لى بعكرمة ولا بغيره.. فأنا قادرة على أن أنتزع حريتى غير منقوصة فقد دفعت ثمنها غاليا وليلعنِّى الله إن فرّطت فيها ثانية»، وقف البطل مذهولا أمام روح التحدى التى فاجأته، اقتربت البطلة منه وقالت له بهدوء «لا تتصور أننى أجهل لماذا تفعل كل هذا.. لا تتصور أننى غافلة عما تفكر فيه.. أرجوك لا تقف فى طريق سعادتى ولا تتحدَّنى، لأن من حاولوا ذلك قبلك خاب سعيهم.. لا تقف عقبة فى طريق مستقبلى الذى هو مستقبلك أيضا.. وتأكد أننى سأكون قادرة إذا حققتَ مطالبى على إقناع أغلب أبنائى أن يغضّوا الطرف عن أشياء كثيرة فعلتَها فى الماضى.. لا تنسَ أنهم وثقوا بك من قبل فخذلتَهم.. لا تخسرهم إلى الأبد فتضيعهم وتضيعنى معهم.. لا تجعلنا نخسر فرصة العمر من بين أيدينا فقد لا تأتى ثانية»، التقطت البطلة أنفاسها ثم قررت أن تترك البطل يواجه نفسه قليلا، لكنها قبل أن تغادر المكان أشارت إلى الخازوق وقالت للبطل باستياء بالغ «وأرجوك من فضلك ما تعملش الحاجات دى تانى».